ابن البيطار وعالم الصيدلة
صفحة 1 من اصل 1
ابن البيطار وعالم الصيدلة
منذ عصر المأمون في القرن التاسع الميلادي، أصبحت الصيدليات تحت إشراف الدولة، والصيادلة يتعرضون لفحص مسلكي، وكان ابن البيطار عميدًا لقسم الصيدلة في القاهرة (1197 ـ 1248م) حيث كان من أشهر علماء الكيمياء والصيدلة.. وتعددت التجارب فكثرت المواد التي ابتكرها العرب، ولكن ابن البيطار هو أعظم عباقرة العرب في علم النبات).
زيغريد هونكه »شمس الله تسطع على الغرب«
هو ضياء الدين أبو محمد عبدالله بن أحمد المالقي النباتي المعروف بابن البيطار، والملقب بالعشاب، عاش فيما بين عامي 593 و646 هجرية، ولد في (مالقة) المدينة الساحلية الأندلسية، وتوفي في دمشق، بعد أن طوف بالآفاق، وكان والده بيطريٌّا حاذقًا. وتتلمذ على الأستاذ الكبير ابن العباس أحمد بن محمد بن فرج النباتي المعروف بابن الرومية صاحب الشهرة العظيمة في علم النبات، والذي ألف كتاب (الرحلة) الذي بقي المرجع الفريد لعدة قرون، إلا أن ابن البيطار فاق أستاذه، بل امتاز في أبحاثه العلمية والتجريبية والتطبيقية على باقي عشابي زمانه.
وهذا يعود ـ في رأينا ـ إلى أن ابن البيطار كان كثير الرحلة إلى بلاد اليونان والروم، وجميع بلاد العالم الإسلامي، حيث يجتمع مع علماء تلك البلاد ويدارسهم في أنواع النبات، وخواصه وفوائده، غير مكتف بقراءة الكتب والمصنفات، وكان في ترحاله يدرس النبات في منابته، بل يدرس التربة والحجر الذي ينمو فيه، والأرض التي تنبته، والعوامل المختلفة المتركزة عليه، حتى إذا جمع خبرة طويلة مستندة على الملاحظة الدقيقة ألف كتابيه المشهورين (المغني في الأدوية المفردة) و(الجامع لمفردات الأدوية والأغذية).
ومن يقرأ هذين الكتابين لابن البيطار وغيرهما يجده يمتاز بعقلية علمية أصيلة تميل إلى التجربة وتؤمن بالمشاهدة والملاحظة والاستنباط، وتحري الدقة والأمانة العلمية في النقل، ومن هنا لا يكون غريبًا أن نجد اهتمام الباحثين المحدثين يزداد بإنتاجه العلمي، واعتباره ـ من بين العشابين والصيادلة العرب والمسلمين ـ أكثرهم إنتاجًا وأدقهم دراسة في فحص النباتات في مختلف البيئات، وفي مختلف البلاد، وكان لملاحظاته القيّمة أكبر الأثر في تقدم علم الصيدلة أو الفاوماكولوجي(1)، ولذلك يقول عنه معاصروه: (إنه الحكيم الأجل، العالم النباتي وعلامة وقته في معرفة النبات وتحقيقه واختباره). وقد استطاع أن يخرج من دراسته للنبات والأعشاب بمستحضرات ومركبات وعقاقير طبية تعد ذخيرة للصيدلة العالمية. وقد شهد له تلميذه النجيب ابن أبي أصيبعة(2) وحكى في مؤلفه عن رحلاته العلمية، حيث يخبرنا أنه كان كثير الترحال، فرحل إلى شمال أفريقيا ومراكش والجزائر وتونس ومصر لدراسة النبات، وعندما وصل إلى مصر كان على عرشها الملك الكامل الأيوبي الذي التحق بخدمته معيَّنًا رئيسًا على سائر العشابين، ولما توفي الملك الكامل، استبقاه في خدمته ابنه الملك الصالح نجم الدين الذي كان يقيم في دمشق، وبدأ ابن البيطار في دمشق يدرس النبات في الشام وآسيا الصغرى بصفته طبيبًا عشابًا(3).
وقد امتدح ابن أبي أصيبعة أستاذه ابن البيطار وقال عنه: (قرأت عليه تفسيره لأسماء أدوية كتاب ديسقوريدس، فكنت أجد من غزارة علمه ودرايته، وفهمه شيئًا كثيرًا جدٌّا، وكنت أحضر عدة من الكتب المؤلفة في الأدوية المفردة مثل كتاب ديسقوريدس وجالينينوس والغافقي وأمثالها من الكتب الجليلة في هذا الفن، فكان يذكر أولا ما قاله ديسقوريدس في كتابه باللفظ اليوناني على ما قد صححه في بلاد الروم، ثم يذكر جمل ما قاله ديسقوريدس من نعته وصفته وأفعاله ويذكر أيضًا ما قاله جالينوس فيه من نعته ومزاجه وأفعاله وما يتعلق بذلك، ويذكر أيضًا جُملاً من أقوال المتأخرين وما اختلفوا فيه ومواضع الغلط والاشتباه الذي وقع لبعضهم في نعته. فكنت أراجع تلك الكتب معه، ولا أجده يقلد شيئُا مما فيها، وأعجب من ذلك أيضًا أنه كان ما يذكر دواء إلا وعيّن في أي مقالة هو من كتاب ديسقوريدس وجالينوس، وفي أي عدد هو من جُملة الأودية المذكورة في تلك المقالة).
ومن مقالة ابن أبي أصيبعة، نجد أن مصادر ابن البيطار قد تنوعت ما بين مصادر داخلية تتمثل في المناخ العلمي الذي عاش فيه ورحلاته الخاصة التي قام بها في العالم العربي والإسلامي، بالإضافة إلى مصادر خارجية تتمثل في الترجمة والاطّلاع على كتب اليونانيين وعلوم الأوائل من غير العرب، والأمر الذي ساعد عليه ـ معرفته بعدد من اللغات كالفارسية واليونانية.
وقد درس ابن البيطار كتب ديسقوريدس Disokurides، وجالينوس، وأبقراط وأوريبازيوس وابن سينا والإدريسي وابن العباس النباتي دراسة مستفيضة حتى أتقنها تمامًا، وشرح النقاط الغامضة فيها، وهو قد استفاد إلى حد كبير من مؤلفات السابقين، ورغم ذلك كانت مؤلفاتهم موضع تصحيحاته، ونقده في كثير من الأحيان.
وهذا ما دعا (راملاندو) في كتابه (إسهام علماء العرب في الحضارة الأوروبية) إلى القول بأن (إسهام ابن البيطار في مجال علم النبات يفوق إنتاج السابقين من ديسقوريدس إلى القرن العاشر الهجري). كما يذكر (الدومييلي) في كتابه (العلم عند العرب وأثره في تطور العلم العالمي) أن ابن البيطار كان مشهورًا بأنه أعظم النباتيين والصيدليين في الإسلام، مع العلم أن مؤلفاته تعتمد على كتب السابقين له، فقد سجلت في جملتها تقدمًا بعيد المدى).
الازدهار العلمي والتقدم الطبي:
وفي الحقيقة شهدت الفترة ما بين القرنين السادس والسابع الهجريين تطورًا كبيرًا في مجـــال الطب، خاصة لاهتمـام الحكــــام والأمراء بالعلم الطبي وإنشاء دور الاستشفاء (البيمارستانات)، بل وصل الأمر إلى حد أن كان لهم دور أيضًا في تطور البحث الطبي في هذه المرحلة، فقد تعددت الإشارات إلى صدور الأوامر السلطانية بالتأليف الطبي، مثل ما نجده في مخطوطة (بهجة الفكر في علاج أمراض العين) لابن أبي عقيل(4) حيث يذكر أن السلطان (نجم الدين أيوب) قد أمره بتأليف كتاب في أمراض العين، والأسباب المحدثة لها والعلامات الدالة عليها، والعلاجات الشافية منها، ويقول في ذلك: (امتثلت إلى ذلك، ووضعت الكتاب مشتملاً على ذكر العين)(5)، ثم يشرع المؤلف في عرض الموضوع عرضًا سريعًا موسوعيٌّا على طريقة علماء العصر.
وإلى جانب اهتمام الحكام والأمراء بالتأليف، إلا أن القرنين السادس والسابع الهجريين قد مثلا عصر التطبيق(6) وظهور الاكتشافات الطبية الجديدة، مثال ذلك الدورة الدموية لابن النفيس. وفي هذه الفترة أيضًا ظهرت الصلة الوثيقة بين الصيدلة والطب حيث كان الطبيب يعد أدويته بنفسه ـ حسب معرفته وتجاربه الخاصة، والدليل على ذلك الـتآليف الكثيرة التي وضعها الأطباء في الصيدلة، أي في الأدوية المفردة والمركبة سواء كانت من نبات أو حيوان أو معادن. وقد عرفوا الأدوية المفردة بالعقاقير الأصيلة، أما الأدوية المركبة فسموها (الأقراباذين) وبقي هذان الاسمان متداولين عبر التاريخ. وتقدموا تقدمًا ملحوظًا في معرفة خواص العقاقير سواء كانت من النباتات أو المعادن أو الحيوانات، فهم الذين أرسوا قواعد علم الصيدلة.
وهناك إجماع عند مؤرخي العلم أن علماء العرب والمسلمين هم الذين وضعوا قواعد علم الصيدلة وفصلوها عن علم الطب، لأن الصيدلة والطب كانتا مهنة واحدة. وقد حاول علماء المسلمين أن يحصلوا على متخصصين في مجال الصيدلة، فأنشأوا المدارس التي تعلم الدارسين طريقة تحضير الأقراباذين وطريقة تسويقها، كما أنهم أول من عمل صيدلية عامة، وصيدلية خاصة ملحقة بالمستشفى، يقول الدكتور عبدالرحمن مرحبا(7): (وللعرب نصيب كبير في نشأة الصيدلة وتقدمها. فقد بلغت على أيديهم مبلغًا عظيمًا من الرقي، فالعرب هم المؤسسون الحقيقيون لمهنة الطب التي رفعوها عن مستوى تجارة العقاقير. وهم الذين أنشأوا المدارس لتحضير الأقراباذين وأماكن لبيعها وتصريفها وأخضعوا هذه الصناعة لرقابة الدولة لمنع الغش، فكان الصيادلة لا يزاولون مهنتهم إلا بعد الترخيص لهم. وقد افتتحوا الصيدليات العامة في أواخر القرن الثامن للميلاد في عهد المنصور، كما ألحقوا بكل بيمارستان صيدلية خاصة به.
زيغريد هونكه »شمس الله تسطع على الغرب«
هو ضياء الدين أبو محمد عبدالله بن أحمد المالقي النباتي المعروف بابن البيطار، والملقب بالعشاب، عاش فيما بين عامي 593 و646 هجرية، ولد في (مالقة) المدينة الساحلية الأندلسية، وتوفي في دمشق، بعد أن طوف بالآفاق، وكان والده بيطريٌّا حاذقًا. وتتلمذ على الأستاذ الكبير ابن العباس أحمد بن محمد بن فرج النباتي المعروف بابن الرومية صاحب الشهرة العظيمة في علم النبات، والذي ألف كتاب (الرحلة) الذي بقي المرجع الفريد لعدة قرون، إلا أن ابن البيطار فاق أستاذه، بل امتاز في أبحاثه العلمية والتجريبية والتطبيقية على باقي عشابي زمانه.
وهذا يعود ـ في رأينا ـ إلى أن ابن البيطار كان كثير الرحلة إلى بلاد اليونان والروم، وجميع بلاد العالم الإسلامي، حيث يجتمع مع علماء تلك البلاد ويدارسهم في أنواع النبات، وخواصه وفوائده، غير مكتف بقراءة الكتب والمصنفات، وكان في ترحاله يدرس النبات في منابته، بل يدرس التربة والحجر الذي ينمو فيه، والأرض التي تنبته، والعوامل المختلفة المتركزة عليه، حتى إذا جمع خبرة طويلة مستندة على الملاحظة الدقيقة ألف كتابيه المشهورين (المغني في الأدوية المفردة) و(الجامع لمفردات الأدوية والأغذية).
ومن يقرأ هذين الكتابين لابن البيطار وغيرهما يجده يمتاز بعقلية علمية أصيلة تميل إلى التجربة وتؤمن بالمشاهدة والملاحظة والاستنباط، وتحري الدقة والأمانة العلمية في النقل، ومن هنا لا يكون غريبًا أن نجد اهتمام الباحثين المحدثين يزداد بإنتاجه العلمي، واعتباره ـ من بين العشابين والصيادلة العرب والمسلمين ـ أكثرهم إنتاجًا وأدقهم دراسة في فحص النباتات في مختلف البيئات، وفي مختلف البلاد، وكان لملاحظاته القيّمة أكبر الأثر في تقدم علم الصيدلة أو الفاوماكولوجي(1)، ولذلك يقول عنه معاصروه: (إنه الحكيم الأجل، العالم النباتي وعلامة وقته في معرفة النبات وتحقيقه واختباره). وقد استطاع أن يخرج من دراسته للنبات والأعشاب بمستحضرات ومركبات وعقاقير طبية تعد ذخيرة للصيدلة العالمية. وقد شهد له تلميذه النجيب ابن أبي أصيبعة(2) وحكى في مؤلفه عن رحلاته العلمية، حيث يخبرنا أنه كان كثير الترحال، فرحل إلى شمال أفريقيا ومراكش والجزائر وتونس ومصر لدراسة النبات، وعندما وصل إلى مصر كان على عرشها الملك الكامل الأيوبي الذي التحق بخدمته معيَّنًا رئيسًا على سائر العشابين، ولما توفي الملك الكامل، استبقاه في خدمته ابنه الملك الصالح نجم الدين الذي كان يقيم في دمشق، وبدأ ابن البيطار في دمشق يدرس النبات في الشام وآسيا الصغرى بصفته طبيبًا عشابًا(3).
وقد امتدح ابن أبي أصيبعة أستاذه ابن البيطار وقال عنه: (قرأت عليه تفسيره لأسماء أدوية كتاب ديسقوريدس، فكنت أجد من غزارة علمه ودرايته، وفهمه شيئًا كثيرًا جدٌّا، وكنت أحضر عدة من الكتب المؤلفة في الأدوية المفردة مثل كتاب ديسقوريدس وجالينينوس والغافقي وأمثالها من الكتب الجليلة في هذا الفن، فكان يذكر أولا ما قاله ديسقوريدس في كتابه باللفظ اليوناني على ما قد صححه في بلاد الروم، ثم يذكر جمل ما قاله ديسقوريدس من نعته وصفته وأفعاله ويذكر أيضًا ما قاله جالينوس فيه من نعته ومزاجه وأفعاله وما يتعلق بذلك، ويذكر أيضًا جُملاً من أقوال المتأخرين وما اختلفوا فيه ومواضع الغلط والاشتباه الذي وقع لبعضهم في نعته. فكنت أراجع تلك الكتب معه، ولا أجده يقلد شيئُا مما فيها، وأعجب من ذلك أيضًا أنه كان ما يذكر دواء إلا وعيّن في أي مقالة هو من كتاب ديسقوريدس وجالينوس، وفي أي عدد هو من جُملة الأودية المذكورة في تلك المقالة).
ومن مقالة ابن أبي أصيبعة، نجد أن مصادر ابن البيطار قد تنوعت ما بين مصادر داخلية تتمثل في المناخ العلمي الذي عاش فيه ورحلاته الخاصة التي قام بها في العالم العربي والإسلامي، بالإضافة إلى مصادر خارجية تتمثل في الترجمة والاطّلاع على كتب اليونانيين وعلوم الأوائل من غير العرب، والأمر الذي ساعد عليه ـ معرفته بعدد من اللغات كالفارسية واليونانية.
وقد درس ابن البيطار كتب ديسقوريدس Disokurides، وجالينوس، وأبقراط وأوريبازيوس وابن سينا والإدريسي وابن العباس النباتي دراسة مستفيضة حتى أتقنها تمامًا، وشرح النقاط الغامضة فيها، وهو قد استفاد إلى حد كبير من مؤلفات السابقين، ورغم ذلك كانت مؤلفاتهم موضع تصحيحاته، ونقده في كثير من الأحيان.
وهذا ما دعا (راملاندو) في كتابه (إسهام علماء العرب في الحضارة الأوروبية) إلى القول بأن (إسهام ابن البيطار في مجال علم النبات يفوق إنتاج السابقين من ديسقوريدس إلى القرن العاشر الهجري). كما يذكر (الدومييلي) في كتابه (العلم عند العرب وأثره في تطور العلم العالمي) أن ابن البيطار كان مشهورًا بأنه أعظم النباتيين والصيدليين في الإسلام، مع العلم أن مؤلفاته تعتمد على كتب السابقين له، فقد سجلت في جملتها تقدمًا بعيد المدى).
الازدهار العلمي والتقدم الطبي:
وفي الحقيقة شهدت الفترة ما بين القرنين السادس والسابع الهجريين تطورًا كبيرًا في مجـــال الطب، خاصة لاهتمـام الحكــــام والأمراء بالعلم الطبي وإنشاء دور الاستشفاء (البيمارستانات)، بل وصل الأمر إلى حد أن كان لهم دور أيضًا في تطور البحث الطبي في هذه المرحلة، فقد تعددت الإشارات إلى صدور الأوامر السلطانية بالتأليف الطبي، مثل ما نجده في مخطوطة (بهجة الفكر في علاج أمراض العين) لابن أبي عقيل(4) حيث يذكر أن السلطان (نجم الدين أيوب) قد أمره بتأليف كتاب في أمراض العين، والأسباب المحدثة لها والعلامات الدالة عليها، والعلاجات الشافية منها، ويقول في ذلك: (امتثلت إلى ذلك، ووضعت الكتاب مشتملاً على ذكر العين)(5)، ثم يشرع المؤلف في عرض الموضوع عرضًا سريعًا موسوعيٌّا على طريقة علماء العصر.
وإلى جانب اهتمام الحكام والأمراء بالتأليف، إلا أن القرنين السادس والسابع الهجريين قد مثلا عصر التطبيق(6) وظهور الاكتشافات الطبية الجديدة، مثال ذلك الدورة الدموية لابن النفيس. وفي هذه الفترة أيضًا ظهرت الصلة الوثيقة بين الصيدلة والطب حيث كان الطبيب يعد أدويته بنفسه ـ حسب معرفته وتجاربه الخاصة، والدليل على ذلك الـتآليف الكثيرة التي وضعها الأطباء في الصيدلة، أي في الأدوية المفردة والمركبة سواء كانت من نبات أو حيوان أو معادن. وقد عرفوا الأدوية المفردة بالعقاقير الأصيلة، أما الأدوية المركبة فسموها (الأقراباذين) وبقي هذان الاسمان متداولين عبر التاريخ. وتقدموا تقدمًا ملحوظًا في معرفة خواص العقاقير سواء كانت من النباتات أو المعادن أو الحيوانات، فهم الذين أرسوا قواعد علم الصيدلة.
وهناك إجماع عند مؤرخي العلم أن علماء العرب والمسلمين هم الذين وضعوا قواعد علم الصيدلة وفصلوها عن علم الطب، لأن الصيدلة والطب كانتا مهنة واحدة. وقد حاول علماء المسلمين أن يحصلوا على متخصصين في مجال الصيدلة، فأنشأوا المدارس التي تعلم الدارسين طريقة تحضير الأقراباذين وطريقة تسويقها، كما أنهم أول من عمل صيدلية عامة، وصيدلية خاصة ملحقة بالمستشفى، يقول الدكتور عبدالرحمن مرحبا(7): (وللعرب نصيب كبير في نشأة الصيدلة وتقدمها. فقد بلغت على أيديهم مبلغًا عظيمًا من الرقي، فالعرب هم المؤسسون الحقيقيون لمهنة الطب التي رفعوها عن مستوى تجارة العقاقير. وهم الذين أنشأوا المدارس لتحضير الأقراباذين وأماكن لبيعها وتصريفها وأخضعوا هذه الصناعة لرقابة الدولة لمنع الغش، فكان الصيادلة لا يزاولون مهنتهم إلا بعد الترخيص لهم. وقد افتتحوا الصيدليات العامة في أواخر القرن الثامن للميلاد في عهد المنصور، كما ألحقوا بكل بيمارستان صيدلية خاصة به.
القدس- عضو مبتدىء
- عدد الرسائل : 119
تاريخ التسجيل : 25/04/2008
رد: ابن البيطار وعالم الصيدلة
ومنذ أيام المأمون في القرن التاسع كانت الصيدليات تحت إشراف الدولة صيانة لها من تجار العقاقير، ويقول طوقان: (كان في كل مدينة مفتش خاص للصيدليات وتحضير الأدوية)(. لقد حازت بحوث المسلمين في حقل الصيدلة موقع الصدارة، منذ وقت مبكر، ولا أدل على ذلك من أننا نجد كثيرًا من المؤلفات الصيدلية لكثير من حكماء الإسلام وعلمائه، مثل بعض أجزاء القانون لابن سينا الذي خصصه لدراسة الأدوية والعقاقير الهامة والتي يعتمد عليها الطبيب في علاجه، وكذلك البيروني معاصره والمتفوق عليه في هذا الجانب بكتابه (الصيدلة في الطب) والذي ألفه مسجلاً فيه خمسة أضعاف ما سجله (دسيقوريدس) في دراساته للعقاقير، وكانت ميزته في هذا الكتاب معرفته التامة بكل من اللغة السنسكريتية والفارسية والعربية واليونانية إضافة إلى لهجته الخوارزمية، مما مكنه أن يورد في كتابه أسماء العقاقير بكل هذه اللغات، محاولا التوحيد بين مصطلحات علم الصيدلة عالميا بقدر الإمكان، هذا فضلا عن وضعه لمقدمة الكتاب والتي تعدّ دستورا طبيٌّا لا غنى للطبيب من الاطلاع عليه، خاصة وأنه يورد فيه الأخلاقيات العلمية التي ينبغي أن يتصف بها الصيدلاني، وكذلك الأسلوب العلمي الذي ينبغي أن يتبعه في عمله الطبي وتكوينه للأدوية والعقاقير، ويكتسب الصيدلي ـ عنده ـ معرفة بقوى الأدوية وتأثير العقاقير بطول التجربة واستمرار الممارسة، وقد تمكن البيروني من جعل الصيدلة، وإن تكن آلة الطب، علما مستقلا كاستقلال المنطق عن الفلسفة، والعروض عن الشعر(9).
وعلى الرغم من اعتماد الصيادلة العرب في بداية أبحاثهم ودراساتهم على كتب السابقين، إلا أنهم تمكنوا من إضافة مادة طبية غزيرة سواء كانت نباتية أم حيوانية أو معدنية، بفضل اتساع رقعتهم الجغرافية ونمو كثير من النباتات الطبية فيها، بالإضافة إلى تفوقهم في علم الكيمياء، مما مكنهم من ابتكار أدوية لم تكن معروفة من قبل، ركبوها من تلك الأصول وأضافوا إلى ما عرفوا من صنوفها عن الهنود واليونان، فكانوا بهذا سباقين إلى ابتداع الأقراباذين أو الفارما كولوجي Pharmacology على الصورة التي وصلت إلينا.
ولا أدل على تقدم المسلمين في علم الصيدلة من أنهم كانوا يتحققون من أي الأجزاء من النبات يكون العقار أفيد وأقوم وأفضل، وكذلك مواعيد جمع العقاقير من النبات وجنيها أو قطفها منها، وكيفية إدخالها وتخزينها، محتفظة بفوائدها وقوتها دون أن يتطرق إليها الفساد، مع معرفة علامات فسادها، وكذلك انتقاء أجود النبات المستخدم في صنع العقار، ولقد أطنب في هذا المجال الكثير من أطباء العرب كابن سينا والطبري والمجوسي وداود الأنطاكي والرازي والبيروني(10) وابن البيطار.
مؤلفات ابن البيطار وتميزه العلمي:
وقد أدى ذلك المناخ العلمي والفكري الملائم وازدهار العلم الطبي الذي عاش ابن البيطار في كنفه ـ إلى نبوغه العلمي، الأمر الذي يبدو في المؤلفات العديدة التي تركها، ومن أهم هذه المؤلفات:
كتاب ميزان الطب.
كتاب شرح أدوية ديسقوريدس.
كتاب الأفعال الغريبة والخواص العجيبة.
كتاب المغني في الأدوية المفردة.
كتاب الجامع في الأدوية المفردة.
ومن الجدير بالذكر أن ابن البيطار قد استفاد من الإسهامات التي قدمها ديسقوريدس والذي كان له مؤلفات هامة من بينها كتاب (الحشائش) الذي قام ابن البيطار بترجمته(11) ونقل منه الكثير في كتابه (الجامع للأدوية المفردة)، وعندما قام ابن البيطار بترجمته لم يكتف فقط بترجمته ونقل نصوصه، ولكنه امتاز بعمق المعرفة والدقة في تناوله، حيث جمع المصادر الهامة لمادة البحث ولم يكتف بمصدر واحد فقط، بل رجع إلى عدة مصادر وعقد بعض المقارنات بين ديسقوريدس وجالينوس وعلماء العرب السابقين، وقد كان حريصا على نقل أسماء النباتات بدقة، وأضاف العديد من التعليقات على هوامش الكتاب (الحشائش) للزيادة في الإيضاح وتوصل إلى نتائج جديدة.
ومن تصفُّح مؤلفات ابن البيطار نجد أنه قد استفاد أيضًا من جالينوس Galenos (31ق.م) حيث تأثر بمؤلفاته الكثيرة، ومن بينها كتابه الذي يتضمن أن الطبيب الفاضل يجب أن يكون فيلسوفا، وكذلك بكتابه (الاسطقسات) (العناصر) وكتابه (التشريح الكبير) وكتابه (حيلة البرء). وقد كان جالينوس أول الأطباء الذين أجروا اختبارات للوقوف على طريقة عمل بعض الأعضاء مثل الكُلَى، وصلة الحبل الشوكي بحركات الجسم، والحساسية، وطريقة عمل التنفس والنبض فأثبت علميا أن الشرايين تحتوي على دم وتنقله، على ما يذهب إليه الأب جورج قنواتي(12).
ومن أبرز إنجازات جالينوس والتي تأثر بها ابن البيطار، اهتمامه بإجراء التجارب وتحضير الأدوية فقد كان جالينوس يحضر الأدوية بنفسه، وقد وصف 473 وصفا طبيا من مختلف المصادر نباتات وحيوانات ومعادن. وإذا كان ابن البيطار قد استفاد من علماء اليونان، فإنه أيضًا قد تأثر بعلمائنا العرب الذين قد تأثروا بدورهم بالعلم اليوناني، ومن أبرز هؤلاء العلماء، أبو حنيفة الدينوري(13)، الذي كان من علماء اللغة المعروفين، والذي وضع كتابا في النبات، ولم يصف مثله في اللغة العربية، إذ يعد أول كتاب عربي ألّف في النبات، وإن كان العرب قبله قد تكلموا في النبات، بدليل أنه نقل هو نفسه من كثير من العلماء الذين سبقوه في هذا الميدان، إلا أنهم لم يضعوا كتابا معروفا متكاملا في ذلك(14).
ويقول أبو حنيفة في كتابه: (لقد جمعت فيه كل ما كانت العرب تعرفه في هذا العهد من نباتات، وقد انتهى أثناء الحديث عن كل نبات بذكر ما وضعه العرب من شعر ونثر، جامعا فيه بين ما قاله ورواه لغويو العرب في النباتات، وما كتب من هذه النباتات لدى الأمم الأخرى)(15).
وقد استفاد ابن البيطار من أبي حنيفة الذي كان نباتيا لغويا، بينما كان ابن البيطار عشابا وطبيبا نباتيا، تحدث عن النبات وأوصافه، أصله وساقه وورقه وزهره وثمره، حتى لا يخلط بين نبات نافع وآخر ضار، ثم يقف على ذلك بذكره ما يستخلص منه من عقار مفيد في العلاج، وكيف يؤخذ كدواء ومتى يؤخذ، وكيف يعد وكيف يتم تعاطيه ومقدار الجرعة(16).
كما استفاد ابن البيطار من العالم الطبيب والفيلسوف ابن سينا الذي استقصى نسبة كبيرة من النباتات، والتي كانت معروفة في عصره، فأورد في كتابه (القانون) طائفة كبيرة من النباتات الشجرية والعشبية والزهرية والعطرية والطحلبية، وبين الأجناس المختلفة من النباتات والأنواع المختلفة من الجنس الواحد وذكر المتشابه وغير المتشابه، وعُني بذكر مواطن النبات والتربة التي ينمو فيها إن كانت ملحة أو غير ملحة(17).
ولكن نجد تميز ابن البيطار عن ابن سينا في كثير من المواضع، فبينما نجد ابن سينا يهتم بدراسة النبات، ويتناوله تناولا عامٌّا من حيث أوصافه الدقيقة، التي تميزه عن غيره، وذكر منابته ـ نجد ابن البيطار يركز على الخصائص الطبية وفوائده في العلاج ومداواة الأمراض، ويوجه اهتمامه إلى تفصيل المزايا الطبية، ويقارن الباحث الجنبلاطي(18) بين مقدرة ابن سينا وابن البيطار بقوله: (وليس معنى ذلك أن نتهم ابن سينا بالقصور في أبحاثه الخاصة في علم النبات أو أنه يفضل الخصائص الطبية، بل كان يعطيها من الأهمية مثل ما يعطي وصفًا للنبات، ومن هنا تتضح دقة ابن سينا، وإن لم يكن صيدليٌّا كما كان ابن البيطار، فابن سينا كان اهتمامه في مجال التأليف الطبي المتسق الذي يتناول الطب والصيدلة معًا، بينما كان ابن البيطار يهمه مجال الصيدلة وحده).
وعلى الرغم من اعتماد الصيادلة العرب في بداية أبحاثهم ودراساتهم على كتب السابقين، إلا أنهم تمكنوا من إضافة مادة طبية غزيرة سواء كانت نباتية أم حيوانية أو معدنية، بفضل اتساع رقعتهم الجغرافية ونمو كثير من النباتات الطبية فيها، بالإضافة إلى تفوقهم في علم الكيمياء، مما مكنهم من ابتكار أدوية لم تكن معروفة من قبل، ركبوها من تلك الأصول وأضافوا إلى ما عرفوا من صنوفها عن الهنود واليونان، فكانوا بهذا سباقين إلى ابتداع الأقراباذين أو الفارما كولوجي Pharmacology على الصورة التي وصلت إلينا.
ولا أدل على تقدم المسلمين في علم الصيدلة من أنهم كانوا يتحققون من أي الأجزاء من النبات يكون العقار أفيد وأقوم وأفضل، وكذلك مواعيد جمع العقاقير من النبات وجنيها أو قطفها منها، وكيفية إدخالها وتخزينها، محتفظة بفوائدها وقوتها دون أن يتطرق إليها الفساد، مع معرفة علامات فسادها، وكذلك انتقاء أجود النبات المستخدم في صنع العقار، ولقد أطنب في هذا المجال الكثير من أطباء العرب كابن سينا والطبري والمجوسي وداود الأنطاكي والرازي والبيروني(10) وابن البيطار.
مؤلفات ابن البيطار وتميزه العلمي:
وقد أدى ذلك المناخ العلمي والفكري الملائم وازدهار العلم الطبي الذي عاش ابن البيطار في كنفه ـ إلى نبوغه العلمي، الأمر الذي يبدو في المؤلفات العديدة التي تركها، ومن أهم هذه المؤلفات:
كتاب ميزان الطب.
كتاب شرح أدوية ديسقوريدس.
كتاب الأفعال الغريبة والخواص العجيبة.
كتاب المغني في الأدوية المفردة.
كتاب الجامع في الأدوية المفردة.
ومن الجدير بالذكر أن ابن البيطار قد استفاد من الإسهامات التي قدمها ديسقوريدس والذي كان له مؤلفات هامة من بينها كتاب (الحشائش) الذي قام ابن البيطار بترجمته(11) ونقل منه الكثير في كتابه (الجامع للأدوية المفردة)، وعندما قام ابن البيطار بترجمته لم يكتف فقط بترجمته ونقل نصوصه، ولكنه امتاز بعمق المعرفة والدقة في تناوله، حيث جمع المصادر الهامة لمادة البحث ولم يكتف بمصدر واحد فقط، بل رجع إلى عدة مصادر وعقد بعض المقارنات بين ديسقوريدس وجالينوس وعلماء العرب السابقين، وقد كان حريصا على نقل أسماء النباتات بدقة، وأضاف العديد من التعليقات على هوامش الكتاب (الحشائش) للزيادة في الإيضاح وتوصل إلى نتائج جديدة.
ومن تصفُّح مؤلفات ابن البيطار نجد أنه قد استفاد أيضًا من جالينوس Galenos (31ق.م) حيث تأثر بمؤلفاته الكثيرة، ومن بينها كتابه الذي يتضمن أن الطبيب الفاضل يجب أن يكون فيلسوفا، وكذلك بكتابه (الاسطقسات) (العناصر) وكتابه (التشريح الكبير) وكتابه (حيلة البرء). وقد كان جالينوس أول الأطباء الذين أجروا اختبارات للوقوف على طريقة عمل بعض الأعضاء مثل الكُلَى، وصلة الحبل الشوكي بحركات الجسم، والحساسية، وطريقة عمل التنفس والنبض فأثبت علميا أن الشرايين تحتوي على دم وتنقله، على ما يذهب إليه الأب جورج قنواتي(12).
ومن أبرز إنجازات جالينوس والتي تأثر بها ابن البيطار، اهتمامه بإجراء التجارب وتحضير الأدوية فقد كان جالينوس يحضر الأدوية بنفسه، وقد وصف 473 وصفا طبيا من مختلف المصادر نباتات وحيوانات ومعادن. وإذا كان ابن البيطار قد استفاد من علماء اليونان، فإنه أيضًا قد تأثر بعلمائنا العرب الذين قد تأثروا بدورهم بالعلم اليوناني، ومن أبرز هؤلاء العلماء، أبو حنيفة الدينوري(13)، الذي كان من علماء اللغة المعروفين، والذي وضع كتابا في النبات، ولم يصف مثله في اللغة العربية، إذ يعد أول كتاب عربي ألّف في النبات، وإن كان العرب قبله قد تكلموا في النبات، بدليل أنه نقل هو نفسه من كثير من العلماء الذين سبقوه في هذا الميدان، إلا أنهم لم يضعوا كتابا معروفا متكاملا في ذلك(14).
ويقول أبو حنيفة في كتابه: (لقد جمعت فيه كل ما كانت العرب تعرفه في هذا العهد من نباتات، وقد انتهى أثناء الحديث عن كل نبات بذكر ما وضعه العرب من شعر ونثر، جامعا فيه بين ما قاله ورواه لغويو العرب في النباتات، وما كتب من هذه النباتات لدى الأمم الأخرى)(15).
وقد استفاد ابن البيطار من أبي حنيفة الذي كان نباتيا لغويا، بينما كان ابن البيطار عشابا وطبيبا نباتيا، تحدث عن النبات وأوصافه، أصله وساقه وورقه وزهره وثمره، حتى لا يخلط بين نبات نافع وآخر ضار، ثم يقف على ذلك بذكره ما يستخلص منه من عقار مفيد في العلاج، وكيف يؤخذ كدواء ومتى يؤخذ، وكيف يعد وكيف يتم تعاطيه ومقدار الجرعة(16).
كما استفاد ابن البيطار من العالم الطبيب والفيلسوف ابن سينا الذي استقصى نسبة كبيرة من النباتات، والتي كانت معروفة في عصره، فأورد في كتابه (القانون) طائفة كبيرة من النباتات الشجرية والعشبية والزهرية والعطرية والطحلبية، وبين الأجناس المختلفة من النباتات والأنواع المختلفة من الجنس الواحد وذكر المتشابه وغير المتشابه، وعُني بذكر مواطن النبات والتربة التي ينمو فيها إن كانت ملحة أو غير ملحة(17).
ولكن نجد تميز ابن البيطار عن ابن سينا في كثير من المواضع، فبينما نجد ابن سينا يهتم بدراسة النبات، ويتناوله تناولا عامٌّا من حيث أوصافه الدقيقة، التي تميزه عن غيره، وذكر منابته ـ نجد ابن البيطار يركز على الخصائص الطبية وفوائده في العلاج ومداواة الأمراض، ويوجه اهتمامه إلى تفصيل المزايا الطبية، ويقارن الباحث الجنبلاطي(18) بين مقدرة ابن سينا وابن البيطار بقوله: (وليس معنى ذلك أن نتهم ابن سينا بالقصور في أبحاثه الخاصة في علم النبات أو أنه يفضل الخصائص الطبية، بل كان يعطيها من الأهمية مثل ما يعطي وصفًا للنبات، ومن هنا تتضح دقة ابن سينا، وإن لم يكن صيدليٌّا كما كان ابن البيطار، فابن سينا كان اهتمامه في مجال التأليف الطبي المتسق الذي يتناول الطب والصيدلة معًا، بينما كان ابن البيطار يهمه مجال الصيدلة وحده).
القدس- عضو مبتدىء
- عدد الرسائل : 119
تاريخ التسجيل : 25/04/2008
رد: ابن البيطار وعالم الصيدلة
كما تأثر ابن البيطار بالغافقي النباتي المشهور الذي يعد من أعظم الصيدليين العرب أصالة، حيث أخذ منه أجزاء غير قليلة من كتابه في الأدوية المفردة(19). كما لا يمكن إغفال تأثر ابن البيطار بكثير من العلماء العرب والصيادلة والعشابين، والذين تظهر أسماؤهم في مؤلفاته مثل الزهاوي وابن جزلة وأبو بكر الرازي وابن سمحون، وثابت بن قرة، وماسرجويه، وابن العوام، الذين كتبوا تراثا ضخما، تمكن ابن البيطار من الاستفادة منه وتوظيفه في تأسيس علم الصيدلة وتأصيله عند العرب والمسلمين.
تصنيف الأمراض والأدوية والعلاجات:
ومن مظاهر التقدم العلمي الطبي عند العرب تصنيفهم للأمراض وذلك للتسهيل عليهم في علاجها، فكانوا يعرضون للأمراض وأسبابها وأعراضها وعلاماتها وطرق علاجها، وقد ظهرت لدى أطباء العرب في هذه المرحلة التي عاش فيها ابن البيطار ظاهرة لم يلتفت إليها من قبل دارسو تاريخ العلوم ألا وهي (الجداول الطبية). وقد ظهرت هذه الطريقة المنهجية عند ابن التلميذ (ت 560هـ) في مخطوطه (المغني في الطب) حيث نرى عرضا منهجيا واضحا للأمراض، فهو يعرض في أول الجدول للمرض، وفي منتصفه للسبب الذي أدى إلى هذا المرض، وفي الأخير للأعراض المصاحبة له، وهذا واضح في كثير من الأمراض، وخاصة الأمراض الحادثة في الجفون ومداواتها، والأمراض العارضة في ملتحمة العين ومداواتها، وفي أمراض ثقب الحدقة ومداواتها، وفي الشبكية، والغشاء المستبطن للأضلاع والعضل المحركة للصدر وعلل الحجاب(20).
وقد ازداد النزوع نحو تصنيف الأمراض عن طريق الجداول حتى إن كتاب ابن البيطار (قانون الزمان في تقويم الأبدان) عبارة عن جداول طبية فقط، ويبدو ابن البيطار في هذا الكتاب في صورة (الطبيب) وليس (العشاب)، ذلك اللقب الذي اشتهر به.
ومثلما اهتم الأطباء بتصنيف الأمراض، اهتموا أيضًا بوضع مصنفات للأدوية والعلاجات، وعقدوا فصولا مستقلة في كتاباتهم عن تصنيف الأدوية، فنرى هذا واضحا في كتاب (الدرة البهية) لابن البيطار، حيث يشير إلى الأدوية والأغذية وأهميتها لبدن الإنسان، ويوضح اختلاف الدواء باختلاف المرضى والمرض، فنراه يقول: (إذا كان في كل دواء من الأدوية قوى كثيرة مختلفة لا توافق المرض الواحد من جميع جهاته، فيجب معرفة أدوية كثيرة مختلفة المزاج، أو القوة نافعة من مرض واحد يختار منها المعالج الأليق بغرضه، والأصلح لقصده بحسب ما يراه من الأسباب الخاصة).
ويتابع ابن البيطار قوله: (واعلم أن الشيء الوارد على بدن الإنسان، إما أن يجعله البدن إلى ملازمته، وهذا هو الغذاء المطلق، وإما أن يغير هو البدن ويقهره، وهذا هو الدواء الفعال، وإما أن يغيره البدن ثم يعود هو فيغير البدن إلى مزاج كمزاجه وهذا هو الدواء المطلق، وإما أن يغير البدن ثم يعود البدن فيغيره آخر، وهذا هو الغذاء المداوي، ولما كان الدواء القتال أقوى من البدن غيره وأفسده والدواء المطلق والغذاء المداوي قوتهما مقاربة لقوة البدن)(21).
والفرق بين الغذاء والدواء، أن الغذاء يفعل فيه البدن، والدواء يفعل هو في البدن، ومن هنا نرى أن الأطباء المسلمين يعتمدون في أول الأمر على التغذية ثم الأدوية ثانيا. ومع أن التغذية لم تكن حتى منتصف القرن الماضي توصف بأنها (علم) إلا أنها صارت اليوم تخصصا علميا دقيقا)(22).
وتُعَدّ التغذية من البحوث الطبية الواسعة في العصر الحديث(23)، ولكن الأطباء المسلمين وعلى رأسهم البيروني وابن البيطار كانوا ـ منذ وقت مبكر ـ ينظرون هذا النظر الصائب، فإننا نجد البيروني مثلا يوضح في كتابه (الصيدلة في الطب) أسلوبا طبيٌّا راقيًا، كان متبعا عند الأطباء المسلمين في معالجاتهم وهو (ميلهم في العلاجات إلى الأغذية الدوائية أكثر منه إلى الأدوية السّمّيّة، إلا عند الاضطرار، وأوصوا بالاقتصار في العلاج على الأغذية والتنوق في تركيبها وترتيبها، فإن لم يقنع ذلك دون الأدوية، فالميل إلى بسائطها المفردة ثم من المركبة إلى ما هو أقل أخلاطا)(24).
فابن البيطار والبيروني، يؤكد كل منهما على أهمية التداوي بالأغذية الطبيعية والنباتات الطبية بدلا من استخدام العقاقير الكيميائية التي لها جوانب ضارة وآثار جانبية ـ ويبدو أن لديهم تجاربهم الخاصة وممارساتهم التي كشفت لهم صحة هذا ـ فإذا كان لابد من تناول عقاقير، فيفضل بسائطها المفردة على المركبة إذ الإكثار من العناصر التي تدخل في تركيب الدواء قد تكون لها عواقب وخيمة على صحة المريض، ويؤيد الطب الحديث هذا الأسلوب العلمي في النظر إلى الدواء، وقد أخذ يتجه إليه الآن بعد أن اكتشف الآثار الخطيرة لمركبات العقاقير، التي تصلح من جانب وتضر من جوانب أخرى. ومن هنا لا يكون غريبا أن نجد (ابن النفيس) مثلا يقول في أحد كتبه: (إنا لا نؤثر على الدواء المفرد دواء مركبا إذا تم الغرض بالمفرد، لكنا قد نضطر إلى التركيب تارة لتقوية قوة الدواء وتارة أخرى لإضعافها)(25).
ومن هنا نلاحظ تعدد المستويات العلاجية بحسب قوة الدواء وقوة البدن، والملاحظ أيضًا أنهم كانوا يلجؤون لإعطاء أقل الأدوية تأثيرا في الجسم عموما أملا في علاج المرض بأقل قدر من التدخل في تركيبه الفسيولوجي Physiology.
وكما أشرنا من قبل أن الأطباء في هذه المرحلة قد عقدوا فصولا مستقلة في كتاباتهم الطبية عن تصنيف الأدوية والأغذية فنرى هذه الخاصية الكبرى كما هي واضحة عند ابن البيطار في كتابه (الدرة البهية) واضحة لدى (ابن النفيس) في موسوعته الكبرى (الشامل) الذي خصص بها ثمانية وعشرين كتابا للأدوية والأغذية المفردة، ونجد هذه الخاصية أيضًا عند طبيب آخر وهو (داود بن أبي البيان) الإسرائيلي (ت 634هـ) في كتابه (الدستور البيمارستاني)(26). الذي وضعه في اثني عشر بابا، وهو كتاب يشتمل على الأدوية المركبة المستعملة في أكثر الأمراض المقتصر عليها في البيمارستان، وهذا أيضًا ما ظهر في كتاب (ابن عقيل) بهجة الفكر (حيث ذكر أن للدواء الواحد شكلين، شكلا إذا كان المريض طفلا، وشكلا آخر إذا كان المريض بالغا(27).
تصنيف الأمراض والأدوية والعلاجات:
ومن مظاهر التقدم العلمي الطبي عند العرب تصنيفهم للأمراض وذلك للتسهيل عليهم في علاجها، فكانوا يعرضون للأمراض وأسبابها وأعراضها وعلاماتها وطرق علاجها، وقد ظهرت لدى أطباء العرب في هذه المرحلة التي عاش فيها ابن البيطار ظاهرة لم يلتفت إليها من قبل دارسو تاريخ العلوم ألا وهي (الجداول الطبية). وقد ظهرت هذه الطريقة المنهجية عند ابن التلميذ (ت 560هـ) في مخطوطه (المغني في الطب) حيث نرى عرضا منهجيا واضحا للأمراض، فهو يعرض في أول الجدول للمرض، وفي منتصفه للسبب الذي أدى إلى هذا المرض، وفي الأخير للأعراض المصاحبة له، وهذا واضح في كثير من الأمراض، وخاصة الأمراض الحادثة في الجفون ومداواتها، والأمراض العارضة في ملتحمة العين ومداواتها، وفي أمراض ثقب الحدقة ومداواتها، وفي الشبكية، والغشاء المستبطن للأضلاع والعضل المحركة للصدر وعلل الحجاب(20).
وقد ازداد النزوع نحو تصنيف الأمراض عن طريق الجداول حتى إن كتاب ابن البيطار (قانون الزمان في تقويم الأبدان) عبارة عن جداول طبية فقط، ويبدو ابن البيطار في هذا الكتاب في صورة (الطبيب) وليس (العشاب)، ذلك اللقب الذي اشتهر به.
ومثلما اهتم الأطباء بتصنيف الأمراض، اهتموا أيضًا بوضع مصنفات للأدوية والعلاجات، وعقدوا فصولا مستقلة في كتاباتهم عن تصنيف الأدوية، فنرى هذا واضحا في كتاب (الدرة البهية) لابن البيطار، حيث يشير إلى الأدوية والأغذية وأهميتها لبدن الإنسان، ويوضح اختلاف الدواء باختلاف المرضى والمرض، فنراه يقول: (إذا كان في كل دواء من الأدوية قوى كثيرة مختلفة لا توافق المرض الواحد من جميع جهاته، فيجب معرفة أدوية كثيرة مختلفة المزاج، أو القوة نافعة من مرض واحد يختار منها المعالج الأليق بغرضه، والأصلح لقصده بحسب ما يراه من الأسباب الخاصة).
ويتابع ابن البيطار قوله: (واعلم أن الشيء الوارد على بدن الإنسان، إما أن يجعله البدن إلى ملازمته، وهذا هو الغذاء المطلق، وإما أن يغير هو البدن ويقهره، وهذا هو الدواء الفعال، وإما أن يغيره البدن ثم يعود هو فيغير البدن إلى مزاج كمزاجه وهذا هو الدواء المطلق، وإما أن يغير البدن ثم يعود البدن فيغيره آخر، وهذا هو الغذاء المداوي، ولما كان الدواء القتال أقوى من البدن غيره وأفسده والدواء المطلق والغذاء المداوي قوتهما مقاربة لقوة البدن)(21).
والفرق بين الغذاء والدواء، أن الغذاء يفعل فيه البدن، والدواء يفعل هو في البدن، ومن هنا نرى أن الأطباء المسلمين يعتمدون في أول الأمر على التغذية ثم الأدوية ثانيا. ومع أن التغذية لم تكن حتى منتصف القرن الماضي توصف بأنها (علم) إلا أنها صارت اليوم تخصصا علميا دقيقا)(22).
وتُعَدّ التغذية من البحوث الطبية الواسعة في العصر الحديث(23)، ولكن الأطباء المسلمين وعلى رأسهم البيروني وابن البيطار كانوا ـ منذ وقت مبكر ـ ينظرون هذا النظر الصائب، فإننا نجد البيروني مثلا يوضح في كتابه (الصيدلة في الطب) أسلوبا طبيٌّا راقيًا، كان متبعا عند الأطباء المسلمين في معالجاتهم وهو (ميلهم في العلاجات إلى الأغذية الدوائية أكثر منه إلى الأدوية السّمّيّة، إلا عند الاضطرار، وأوصوا بالاقتصار في العلاج على الأغذية والتنوق في تركيبها وترتيبها، فإن لم يقنع ذلك دون الأدوية، فالميل إلى بسائطها المفردة ثم من المركبة إلى ما هو أقل أخلاطا)(24).
فابن البيطار والبيروني، يؤكد كل منهما على أهمية التداوي بالأغذية الطبيعية والنباتات الطبية بدلا من استخدام العقاقير الكيميائية التي لها جوانب ضارة وآثار جانبية ـ ويبدو أن لديهم تجاربهم الخاصة وممارساتهم التي كشفت لهم صحة هذا ـ فإذا كان لابد من تناول عقاقير، فيفضل بسائطها المفردة على المركبة إذ الإكثار من العناصر التي تدخل في تركيب الدواء قد تكون لها عواقب وخيمة على صحة المريض، ويؤيد الطب الحديث هذا الأسلوب العلمي في النظر إلى الدواء، وقد أخذ يتجه إليه الآن بعد أن اكتشف الآثار الخطيرة لمركبات العقاقير، التي تصلح من جانب وتضر من جوانب أخرى. ومن هنا لا يكون غريبا أن نجد (ابن النفيس) مثلا يقول في أحد كتبه: (إنا لا نؤثر على الدواء المفرد دواء مركبا إذا تم الغرض بالمفرد، لكنا قد نضطر إلى التركيب تارة لتقوية قوة الدواء وتارة أخرى لإضعافها)(25).
ومن هنا نلاحظ تعدد المستويات العلاجية بحسب قوة الدواء وقوة البدن، والملاحظ أيضًا أنهم كانوا يلجؤون لإعطاء أقل الأدوية تأثيرا في الجسم عموما أملا في علاج المرض بأقل قدر من التدخل في تركيبه الفسيولوجي Physiology.
وكما أشرنا من قبل أن الأطباء في هذه المرحلة قد عقدوا فصولا مستقلة في كتاباتهم الطبية عن تصنيف الأدوية والأغذية فنرى هذه الخاصية الكبرى كما هي واضحة عند ابن البيطار في كتابه (الدرة البهية) واضحة لدى (ابن النفيس) في موسوعته الكبرى (الشامل) الذي خصص بها ثمانية وعشرين كتابا للأدوية والأغذية المفردة، ونجد هذه الخاصية أيضًا عند طبيب آخر وهو (داود بن أبي البيان) الإسرائيلي (ت 634هـ) في كتابه (الدستور البيمارستاني)(26). الذي وضعه في اثني عشر بابا، وهو كتاب يشتمل على الأدوية المركبة المستعملة في أكثر الأمراض المقتصر عليها في البيمارستان، وهذا أيضًا ما ظهر في كتاب (ابن عقيل) بهجة الفكر (حيث ذكر أن للدواء الواحد شكلين، شكلا إذا كان المريض طفلا، وشكلا آخر إذا كان المريض بالغا(27).
القدس- عضو مبتدىء
- عدد الرسائل : 119
تاريخ التسجيل : 25/04/2008
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى